• ١ تشرين ثاني/نوفمبر ٢٠٢٤ | ٢٨ ربيع الثاني ١٤٤٦ هـ
البلاغ

الرجل ذو الثوب الأزرق

فهمي هويدي

الرجل ذو الثوب الأزرق

لم أصدق ما سمتعه حين أشار محدثي إلى رجل يرتدي ثوبا أزرق اللون جلس في كشك جانبي وقال إنه من كبار رجال التربية والتعليم السابقين. لم أفهم إلا حين أضاف أن صاحبنا أحيل إلى التقاعد فانتهى به الحال أن صار فرد أمن يقضي في كشك الملاحظة ١٢ ساعة يومياً.

ازدادت حيرتي فقال إنه أمضى ٤٠ عاماً في مهنة التدريس وظل يؤدي عمله كأحد المربين الأفاضل إلى أن صار «موجها أول» في مادته، وتجاوز راتبه الشهري ثلاثة آلاف جنيه. إلا أنه حين بلغ سن التقاعد أصبح يتقاضي معاشاً في حدود ١٢٠٠ جنيه. وبعدما ترك الخدمة فإنه لم يستطع أن ينفق على أسرته وأبنائه الذين يدرسون في الجامعة.

ورغم أنّ زوجته موظفة بدرجة مدير عام في إحدى القرى السياحية، فإن دخلهما الشهري لم يكن كافياً لتوفير متطلبات معيشة الأسرة. ولأنّه بلغ السادسة بعد الستين فإنّه لم يجد وظيفة تقبله.

وحين ضاقت خياراته تقدم ليعمل موظف أمن في إحدى القرى السياحية براتب ١٣٠٠ جنيه شهرياً، واعتبر أنّ ذلك المبلغ الإضافي بمثابة النواة التي تسند «الزير» كما يقال.

بعدما سمعت القصة، لم استغرب حين قيل لي إن نموذج الموجه الأول الذي صار «فرد أمن» ليس حالة استثنائية، لأنّ هناك آخرين من موظفي الدولة المحالين إلى التقاعد صاروا يقبلون بالعمل في العديد من الوظائف الدنيا. ويظل الانخراط في فرق الأمن أفضل من العمل في مجالات النظافة والتحميل وخدمة زبائن المقاهي.

لم تفارقني الدهشة فرجعت إلى وكيل نقابة المعلمين لشؤون المعاشات، الأستاذ إبراهيم شاهين، الذي قال إن ما ذكره الموجه الأول صحيح مائة في المائة، وإن مذلة ما بعد الإحالة إلى التقاعد، إذا كانت قاسية على رجال التربية والتعليم الذين يؤتمنون على تربية الأجيال الجديدة، ومن ثم يسهمون في صناعة الغد وإعداد قادة المستقبل.

فإنها مشكلة عامة بالنسبة لكل موظفي الحكومة، ذلك أن معاشات هؤلاء تحتسب بناء على أساس مرتباتهم الأساسية التي تعادل في الغالب ثلث مدخولهم الشهري. أما الثلثان فهما مقابل البدلات والحوافز والمكافآت وساعات العمل الإضافي. وباستثناء الهيئات أو المصالح الحكومية ذات الأوضاع الخاصة، فإن كل موظف حكومي يخرج إلى المعاش تصبح حياته شديدة العسر، وإذا كان مريضا فإن العسر يصبح بؤسا بعد تركه للخدمة. وفي أجواء تزايد البطالة حاليا فإن عثور الموظف المتقاعد على عمل آخر يصبح أمرا صعبا للغاية، لذلك فإن بعضهم يصبح مضطرا للقبول بأي عمل يسند إليه لينقذ حياته وأسرته من الضنك والانهيار.

علمت من الأستاذ شاهين أن موظفي المعاشات في وزارة التربية والتعليم وحدها نحو ٤٠٠ ألف شخص. وإذا افترضنا أن كل واحد منهم لديه أسرة تضم خمسة أفراد، حتى إذا كان للأسرة طفلان فقط، فذلك يعني أن الذين يعانون من المشكلة نحو مليوني مواطن.

سألته عن موقف النقابة فقال إنها تحاول إعانة المعلمين بكل السبل، لكن يدها مغلولة ومواردها شحيحة أقرب إلى المعدومة.

إذ رغم أنها تصرف للمعلم المتقاعد ١٢٠ جنيها شهريا وهو مبلغ زهيد ومخجل (يعادل عشرة دولارات) إلا أنها كثيرا ما تعجز عن الوفاء بذلك. أما صندوق التأمين والمعاشات فهو يقدم ١٥ ألف جنيه للمعلم كمكافأة نهاية الخدمة.

وذلك بدوره مبلغ زهيد نسبيا، خصوصا إذا قورن بالمكافآت التي تمنحها جهات أخري في الدولة لموظفيها، وهي تصل في بعض الأحيان إلي عشرة أضعاف نصيب رجل التربية والتعليم.

وأنا أتحري القضية صادفت أمرين.

الأول أن المشكلة تتجاوز حدود المعلمين لتشمل البحر الواسع لموظفي الدولة.

أعني أن «الضحايا» ليسوا ٤٠٠ ألف معلم فقط ولكن عددهم يتجاوز أربعة ملايين موظف (يعولون عشرين مليون مواطن)، الأمر الذي يصور حجم المعاناة وآثارها الاجتماعية بعيدة المدى.

الأمر الثاني أنه في الوقت الذي تتراجع فيه الأحوال المعيشية لذلك العدد الكبير من أسر الموظفين الآخرين، فإن هناك فئات أخرى من بين موظفي الدولة يتم الإغداق على الرواتب وتضاعف المعاشات بصورة مثيرة للدهشة.

ورغم أن ذلك أمر مسكوت عليه في الحوار العام، فإنني ما تحدثت مع أحد في موضوع المعاشات إلا وبدأ بالمقارنة بين ما يتقاضاه الموظف أو المعلم بعد بلوغه سن الستين وبين ما يتقاضاه موظف آخر من المحظوظين سواء في بداية تعيينه أو في نهاية خدمته ومعاشه.

وحدثني البعض عن الهدايا التي توزع علي المحظوظين في كل مناسبة، وكأن في خزينة الدولة بئرين، إحداهما فارغة تتعامل معها الأغلبية المسحوقة وأخرى مليئة تغترف منها الأقلية المحظوظة.

وتصادف أن قرأت في هذه الأجواء تدوينة للدكتور نور فرحات أستاذ القانون البارز ذكر فيها أن مرتب أستاذ الجامعة أقل من راتب معاون النيابة.

وأنهم يعينون المعيد في الجامعة بالكاد مقابل ثلاثة آلاف جنيه في حين أن نظيره يتقاضي ١٢ ألف جنيه. هذا الخلل الفادح في أجور ومعاشات موظفي الدولة يشكك في صدقية شح الموارد، رغم أنها شحيحة بالفعل.

إلا أنها في التطبيق العملي شحيحة على الأغلبية ووفيرة على الأقلية. الأمر الذي يكشف عن خلل يتعين علاجه، وفي هذه الجزئية فإنني أضم صوتي إلى صوت من قال إن المواطن المصري يحتاج إلى عدل وليس إلي عطف فقط.

بمناسبة شح الموارد والخلل في الدخول. فلا أعرف مدي صحة الخبر الذي نشرته صحيفة لاتريبيون الفرنسية (عدد ١٦/٨) عن شراء مصر أربع طائرات فاخرة بما يعادل ٣٠٠ مليون يورو.

لكنني لا أخفي سعادة بالخبر الذي أذيع في الوقت نفسه أن رئيسة مالاوي جويس باندا قررت بيع طائرة الرئاسة بمبلغ ١٥ مليون دولار لشراء ذرة وغذاء يطعم مليون شخص.

وفرحت حين قرأت أنها قررت بيع ٣٥ سيارة مرسيدس يستخدمها كبار موظفي الدولة لتوفير المبالغ اللازمة لتحسين أحوال الناس. ولست أخفي أنني وجدت في الخبرين رسالة بليغة يمكن الاستفادة بها والتعلم منها. أما احتذاؤها فهو بحاجة إلى معجزة، إلّا أنّ الله قادر علي كلّ شيء.

ارسال التعليق

Top